فصل: أبو إسحاق إبراهيم بن سنان بن ثابت بن قرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: عيون الأنباء في طبقات الأطباء (نسخة منقحة)



.أبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة:

كان طبيبًا فاضلاً، يلحق بأبيه في صناعة الطب، وقال في التاريخ الذي عمله- وهذا التاريخ ذكر فيه الوقائع والحوادث التي جرت في زمانه، وذلك من أيام المقتدر باللّه إلى أيام المطيع للّه- إنه كان وولده في خدمة الراضي باللّه، وقال بعد ذلك أيضًا عن نفسه إنه خدم بصناعة الطب المتقي بن المقتدر باللّه، وخدم أيضًا المستكفي باللّه والمطيع للّه، قال وفي سنة ثلاث عشرة وثلثمائة قلدني الوزير الخاقاني البيمارستان الذي اتخذه ابن الفرات بدرب المفضل، وقال أيضًا: في تاريخه إنه لما سُلِّم أبو علي بن مقلة إلى الوزير عبد الرحمن بن عيسى من جهة الراضي باللّه في سنة أربع وعشرين وثلثمائة، حمله إلى داره في يوم الخميس لثلاث ليالٍ خلون من جمادى الآخرة؛ وضُرب أبو علي بن مقلة بالمقارع في دار الوزير عبد الرحمن، وأخذ خطه بألف ألف دينار، وكان الذي تولى ذلك منه بنان الكبير من الحجرية، ثم سلم إلى أبي العباس الحصيني، ووكل به ما كردوبنان الكبير، ورد الحصيني مناظرته إلى أبي القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الإسكافي المعروف بأبي نعرة، ومطالبته إلى الدستواني، فجرت عليه منه من المكاره والتعليق والضرب والدهق أمر عظيم، والذي شاهدت أنا من أمره أن أبا العباس الحصيني كلفني يومًا الدخول إليه، لمعرفة خبره من شيء تشكاه وقال إن كان يحتاج إلى الفصد فتقدم إلى من يفصده بحضرتك، فدخلت إليه فوجدته مطروحًا على حصير خَلِق على بارية ومخدة وسخة خليعة تحت رأسه، وهو عريان بسراويل، فوجدت بدنه من رأسه إلى أطراف أصابع رجليه كلون الباذنجان سواء، ليس منه عقد سليم، ووجدت به ضيق نفس شديد، لأن الدستواني كان قد دهق صدره، فعرفت الحصيني أنه شديد الحاجة إلى الفصد، فقال لي يحتاج إلى أن يلحقه كد في المطالبة، فكيف نعمل به؟ قلت لا أدري؟ إلا أنه إن ترك ولم يفصد مات، وإن فصد ولحقه مكروه بعده تلف فقال لأبي القاسم بن أبي نعرة الإسكافي ادخل إليه وقل له إن كنت تظن أنه يلحقك ترفيه إذا افتصدت فبئس ما تظن، فافتصد وضع في نفسك أن المطالبة لا بد منها ثم قال لي أحب أن تدخل إليه معه، فاستعفيته من ذلك فلم يعفني، فدخلت معه وأدى الرسالة بحضرتي، فقال إذا كان الأمر على هذا، فلست أريد أن أفتصد، وأنا بين يدي اللّه، فعدنا إليه وعرفناه ما قال، فقال لي أي شيء عندك وما الذي ترى؟ قلت الذي أرى أن يفصد وأن يرفه، فقال افعل، فعدت إليه وفصد بحضرتي، ورفه يومه، وخف ما به، ويتوقع المكروه من غد وهو برعب طائر العقل، فاتفق سبب للحصيني أحوجه إلى الاستتار في ذلك اليوم، وبقي ابن مقلة مرفهًا ليس أحد يطالبه، وكفي أمر عدوه من حيث لم يحتسب، ورجعت نفسه إليه، وحضر ابن فراية فضمن ما عليه وتسلمه، وقد كان أدى قبل ذلك إلى الحصيني نيفًا وخمسين ألف دينار، وأشهر عليه العدول بأنه قد باع جميع ضياعه وضياع أولاده وأسبابه من السلطان، وقال في موضع آخر من كتابه هذا إنه لما قطعت يد ابن مقلة استدعاني الراضي باللّه في آخر النهار وأمرني بالدخول إليه وعلاجه، فصرت إليه يوم قطع يده فوجدته محبوسًا في القلاية التي في صحن الشجرة، والباب مقفل عليه، ففتح الخادم الباب عنه، ودخلت إليه، فوجدته جالسًا على قاعدة من بعض أساطين القلاية، ولونه كلون الرصاص الذي هو جالس عليه، وقد ضعف جدًا وهو في نهاية القلق من ضربان ساعده ورأيت له في القلاية قبة خيش نصبت له، وعليها طاقان من الخيش وفيهما مصلى ومخاد طبري، وحول المصلى أطباق كثيرة بفاكهة حسنة، فلما رآني بكى وشكى حاله، وما نزل به وما هو فيه من الضربان، ووجدت ساعده قد ورم ورمًا شديداً، وعلى موضع القطع خرقة غليظة قردواني كحلية مشدودة بخيط قنبي، فخاطبته بما يجب، وسكنت منه، وحللت الخيط، ونحيت الخرقة، فوجدت تحتها على موضع القطع سرجين الدواب، فأمر بأن ينفض عنه، فنفض، وإذا رأس الساعد أسفل القطع مشدود بخيط قنب وقد غاص في ذراعه لشدة الورم، وقد ابتدأ ساعده يسود، وعرفته أن سبيل الخيط أن يحل وأن يجعل موضع السرجين كافور، ويطلى ذراعه بالصندل وماء الورد والكافور.
فقال يا سيدي افعل ما رأيت، فقال الخادم الذي معي احتاج أن أستأذن مولانا في ذلك، ودخل ليستأذن، وخرج ومعه مخزنة كبيرة مملوءة كافوراً، وقال قد أذن لك مولانا أن تعمل ما ترى، وأمر بأن ترفق به، وتوفر العناية عليه، وتلزمه إلى أن يهب اللّه عافيته، فحللت الخيط وفرغت المخزنة في موضع القطع وطليت ساعده، فعاش واستراح وسكن الضربان، وسألته هل اغتذى؟ فقال وكيف ينساغ لي طعام؟ فتقدمت بإحضار طعام، فأحضر وامتنع من الأكل، فرفقت به ولقمته بيدي؛ فحصل له نحو عشرين درهمًا خبزاً، ومن لحم فروج نحو ذلك، وحلف أنه لا يقدر أن يبلع شيئًا آخر، وشرب ماء بارداً، وعاشت روحه، وانصرفت، وقفل الباب عليه، وبقي وحده.
ثم أدخل عليه من غد خادم أسود يخدمه وحبس معه، وترددت إليه أيامًا كثيرة؛ وعرض له في رجله اليسرى علة النقرس ففصدته، وكان يتألم من يده اليمنى التي قطعت، ومن رجله اليسرى، ولا ينام الليل من شدة الألم، ثم عوفي، وكنت إذا دخلت إليه يبتدئ بالمسألة عن خبر ابنه أبي الحسين، فإذا عرفته سلامته سكن غاية السكون، ثم ناح على نفسه وبكى على يده، وقال يد خدمت بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاث خلفاء، وكتبت بها القرآن دفعتين، تقطع كما تقطع أيدي اللصوص؟ وتذكر، وأنت تقول لي أنت في آخر نكبة، وأن الفرج قريب؟ قلت بلى، فقال قد ترى ما حل بي؟ فقلت ما بقي بعد هذا شيء؛ والآن ينبغي أن نتوقع الفرج فإنه قد عمل بك ما لا يعمل بنظير لك، وهذا انتهاء المكروه ولا يكون بعد الانتهاء إلا الانحطاط، فقال لا تفعل، فإن المحنة تشبثت بي تشبثًا ينقلني من حال إلى حال، إلى أن تؤديني إلى التلف؛ كما تتشبث حمى الدق بالأعضاء فلا تفارق صاحبها حتى تؤديه إلى الموت، ثم تمثل بهذا البيت:
إذا ما مات بعضك فابك بعضًا ** فبعض الشيء من بعض قريب

فكان الأمر كما قال.
ولما قرب بحكم من بغداد نُقل ابن مقلة من ذلك الموضع إلى موضع أغمض منه، فلم يُوقف له على خبر، وحُجبت عنه، ثم قطع لسانه وبقي في الحبس مدة طويلة ثم لحقه ذرب، ولم يكن له من يعالجة ولا من يخدمه، حتى بلغني أنه كان يستسقي الماء لنفسه بيده، يجتذب الحبل بيده اليسرى، ويمسكه بفمه، ولحقه شقاء عظيم، إلى أن مات.
وكان ثابت بن سنان المذكور خال هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ الكاتب البليغ، ولثابت بن سنان بن ثابت بن قرة من الكتب كتاب التاريخ ذكر فيه الوقائع والحوادث التي جرت في زمانه، وذلك في سنة خمس وتسعين ومائتين إلى حين وفاته، ووجدته بخطه وقد أبان فيه عن فضل.
وكانت وفاة ثابت بن سنان في شهور سنة ثلاث وستين وثلثمائة.

.أبو إسحاق إبراهيم بن سنان بن ثابت بن قرة:

كان كاملًا في العلوم الحكمية فاضلًا في الصناعة الطبية، متقدمًا في زمانه، حسن الكتابة، وافر الذكاء، مولده في سنة ست وتسعين ومائتين، وكانت وفاته في يوم الأحد النصف من المحرم سنة خمس وثلاثين وثلثمائة ببغداد، وكانت العلة التي مات فيها ورم في كبده.

.أبو إسحاق إبراهيم بن زهرون الحراني:

كان طبيبًا مشهوراً، وافر العلم في صناعة الطب، جيد الأعمال، حسن المعاملة، وكانت وفاته في ليلة الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة تسع وثلثمائة ببغداد.

.أبو الحسن الحراني:

هو أبو الحسن ثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني، كان طبيبًا فاضلًا كثير الدراية، وافر العلم، بارعًا في الصناعة، موفقًا في المعالجة، مطلعًا على أسرار الطب، وكان مع ذلك ضنينًا بما يحسن.
نقلت من خط ابن بطلان في مقالته في علة نقل الأطباء المهرة تدبير أكثر الأمراض التي كانت تعالج قديمًا بالأدوية الحارة إلى التدبير المبرد، قال كان قد أسكت الوزير أبو طاهر بن بقية في داره الشاطئه على الجسر ببغداد، وقد حضر الأمير معز الدولة بختيار، والأطباء مجمعون على أنه قد مات، فتقدم أبو الحسن الحراني، وكنت أصحبه يومئذ، فقال أيها الأمير إذا كان قد مات فلن يضره الفصاد، فهل تأذن في فصده؟ قال له افعل يا أبا الحسن، ففصده، فرشح منه دم يسير، ثم لم يزل يقوى الرشح إلى أن صار الدم يجري فأفاق الوزير، فلما خلوت به سألته عن الحال وكان ضنينًا بمايقول، فقال إن من عادة الوزير أن يستفرغ في كل ربيع دمًا كثيرًا من عروق المعدة، وفي هذا الفصل انقطع عنه فلما فصدته ثابت الطبيعة من خناقها.
قال عبد الله بن جبرائيل لما دخل عضد الدولة، رحمه اللّه، إلى بغداد كان أول من لقيه من الأطباء أبو الحسن الحراني، وكان شيخًا مسناً، وسنان وكان أصغر من أبي الحسن؛ وكانا عالمين فاضلين، وكانا جميعًا يسعران المرضى ويمضيان إلى دار السلطان، فحسن ثناؤه عليهما، ولما دخلا إلى عضد الدولة قال من هؤلاء؟ قالوا الأطباء، قال نحن في عافية، وما بنا حاجة إليهم، فانصرفا خجلين، فلما خرجا من الدهليز قال سنان لأبي الحسن يجمل أن ندخل إلى هذا الأسد؛ ونحن شيخا بغداد فيفترسنا؟ قال له أبو الحسن فما الحيلة؟ قال نرجع إليه، وأنا أقول ما عندي، وننظر أيش الجواب قال افعل، فاستأذنا ودخلا فقال سنان أطال اللّه بقاء مولانا الملك، موضوع صناعتنا حفظ الصحة لا مداواة المرضى، والملك أحوج الناس إليه، فقال له عضد الدولة صدقت، وقرر لهما الجاري السني وصارا ينوبان مع أطبائه.
قال عبيد اللّه بن جبرائيل ولهما أحاديث كثيرة حسنة، منها حديث قلاّء الكبود، وذلك أنه كان بباب الأزج إنسان يقلي الكبود، فكانا إذا اجتازا عليه دعا لهما وشكرهما، وقام لهما حتى ينصرفا عنه، فلما كان في بعض الأيام اجتازا فلم يرياه، فظنا أنه قد شغل عنهما، ومن غد سألا عنه، فقيل لهما إنه الآن قد مات، فعجبا من ذلك، وقال أحدهما للآخر له علينا حق يوجب علينا قصده ومشاهدته، فمضيا جميعًا وشاهداه، فلما نظرا إليه تشاورا في فصده، وسألا أهله أن يؤخروه ساعة واحدة ليفكروا في أمره، ففعلوا ذلك، وأحضروا فصادًا ففصده فصدة واسعة، فخرج منه دم غليظ، وكان كلما خرج الدم خف عنه، حتى تكلم، وسقياه ما يصلح، وانصرفا عنه، ولما كان في اليوم الثالث خرج إلى دكانه، فكان هذا من المعجز لهما، فسئلا عن ذلك، فقالا سببه أنه كان إذا قلى الكبود يأكل منها، وبدنه ممتلئ دمًا غليظًا وهو لا يحس، حتى فاض من العروق إلى الأوعية، وغمر الحرارة الغريزية وخنقها، كما يخنق الزيت الكثير الفتيلة التي تكون في السراج، فلما بدروه بالفصد نقص الدم وخف عن القوة الحملُ الثقيل، وانتشرت الحرارة وعاد الجسم إلى الصحة، وهذا الامتلاء قد يكون من البلغم أيضاً، وقد ذكر أسبابه الفاضل جالينوس في كتابه في تحريم الدفن قبل أربع وعشرين ساعة.
قال عبيد اللّه بن جبرائيل ومن أحسن ما سمعت عن أبي الحسن الحراني أنه دخل إلى قرابة الشريف الجليل محمد بن عمر، رحمه اللّه وكان إنسانًا نبيل القدر قد عارضه ضيق نفس شديد صعب فأخذ نبضه وأشار بما يستعمله، فشاوره في الفصد فقال له لا أراه وإن كان يخفف المرض تخفيفًا بيناً، وانصرف، وجاءه أبو موسى المعروف ببقة الطبيب، وأبصر نبضه وقارورته وأشار بالفصد، فقال له الشريف قد كان عندي أبو الحسن الحراني الساعة وشاورته في الفصد فذكر أنه لا يراه صواباً، فقال بقة أبو الحسن أعرف، وانصرف، فجاءه بعض الأطباء الذين هم دون هذه الطبقة، فقال يفصد سيدنا فإنه في الحال يسكن، وقوى عزمه على الفصد ولم يبرح حتى فصده فعندما فصده خف عنه ما كان يجده خفًا بيناً، ونام وسكن عنه واغتذى وهو في عافية، فعاد إليه أبو الحسن الحراني آخر النهار فوجده ساكنًا قاراً، فقال له، لما رآه في تلك الحال قد فصدت؟ فقال كيف كنت أفعل ما لم تأمرني به؟ قال ما هو هذا السكون إلا للفصد، فقال له الشريف لما علمت بهذا لم لا تفصدني قال له أبو الحسن الحراني إذ قد فصد سيدنا فليبشر بحمى ربع سبعين دوراً، ولو أن أبقراط وجالينوس عنده ما تخلص إلاَّ بعد انقضائها، واستدعى دواة ودرجاً، ورتب تدبيره لسبعين نوبة ودفعه إليه، وقال هذا تدبيرك، فإذا انقضى ذلك جئت إليك، وانصرف، فما مضى حتى جاءت الحمى وبقيت كما قال فما خالف تدبيره حتى برئ.
قال عبيد اللّه بن جبرائيل ومن أخباره أنه كان للحاجب الكبير غلام وكان مشغوفًا به، واتفق أن الحاجب صنع دعوة كبيرة كان فيها أجلاء الدولة، ولما اشتغل بأمر الدعوة حم الغلام حمى حادة، فورد على قلب الحاجب من ذلك موردًا عظيماً، وقلق قلقًا كثيراً، واستدعى أبا الحسن الحراني فقال له يا أبا الحسن أريد الغلام يخدمني في غداة غد، تعمل كل ما تقدر عليه، وأنا أكافئك بما يضاهي فعلك، فقال له يا حاجب إن تركت الغلام يستوفي أيام مرضه عاش، وإلا، فيمكنني من ملازته أن يقوم في غد لخدمتك، ولكن إذا كان في العام المقبل في مثل هذا اليوم يحم حمى حادة، ولو كان من كان عنده من الأطباء لم تنجع فيه مداواته، ويموت إما في البُحران الأول أو الثاني فانظر أيهما أحب إليك، فقال له الحاجب أريد أن يخدمني في غداة غد، وإلى العام المقبل فرج، ظنًا منه أن هذا القول من الأحاديث المدفوعة، فلازمه أبو الحسن، ولما كان في غد أفاق وقام في الخدمة وأعطى الحاجب لأبي الحسن خلعة سنية ومالًا كثيراً، وصار يكرمه غاية الإكرام، فلما كان في العام المقبل في مثل اليوم الذي حم فيه الغلام، عاودته الحمى، فأقام محمومًا سبعة أيام ومات، فعظم في نفس الحاجب وجماعة من الناس قول أبي الحسن، وكبر لديهم محله، وكان هذا منه كالمعجز.
وقال هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ الكاتب حدثنا أبو محمد الحسن بن الحسين النوبختي قال حدثني الشريف أبو الحسن محمد بن عمر بن يحيى أنه أراد ابتياع جارية عاقلة من دور بني خاقان بأحد عشر ألف درهم؛ وكان الوسيط في ذلك أبو المسيب فهد بن سليمان، فقال لأبي المسيب أحب أن تستثير لي في أمرها أبا الحسن الحراني بعد أن تكلفه مشاهدتها، فمضى إليه وسأله الركوب معه إلى دار القوم ليرى الجارية وكانت متشكية، وشاهدها أبو الحسن الحراني وأخذ مجسها وتأمل قارورتها ثم قال له سرًا إن كانت أكلت البارحة من سماقي أو حصرمية وقثاء أو خيار فاشترها، وإلا فلا تعترض لها، فسألنا عما أكلته في ليلتها فقيل لنا بعض ما قاله أبو الحسن، فابتاعها، فعجبنا من ذلك وعجب من سمع.
وقال المحسن بن إبراهيم كان أولاد أبي جعفر بن القاسم بن عبيد اللّه يشنعون على أبي الحسن الحراني، عمنا، بأنه قتل أباهم، فسألت أبا إسحاق إبراهيم بن هلال والدي عن ذلك، فقال كان أبو جعفر عدوًا لأبي الحسن عمي، وعازمًا على قتله لأمور نقمها عليه، وقد قبض عليه وحبسه، فاتفق أن اعتل أبو جعفر علته التي مات فيها، فأشير عليه بمشاورة أبي الحسن وهو في حبسه، فقال لا أثق به، ولا أسكن إليه، مع ما يعلمه من سوء رأيي فيه وعول على غيره من الأطباء، فدخل بعض إخوان أبي الحسن إليه وشرح له ما يدبر به أبو جعفر في مرضه، فقال أبو الحسن، وكان يأتمنه أنت تعرف رأي هذا الرجل في، ومتى استمر على هذا التدبير هلك بلا محالة، وكفينا كفاية عاجلة، فأحب أن تمنعه مشاورتي وتصوبه على رأيه في العدول عني، واشتدت العلة بأبي جعفر، ومضى لسبيله بعد قبض القاهر باللّه عليه بعشرة أيام.
وقال المحسن أيضًا أصابتني حمى حادة كان هجومها علي بغتة، فحضر أبو الحسن عمنا وأخذ مجسي ساعة، ثم نهض ولم يقل شيئاً، فقال له والدي ما عندك يا عمي في هذه الحمى؟ فقال له سرا لا تسألني عن ذلك إلى أن يجوزه خمسين يوماً، فواللّه لقد فارقتني في اليوم الثالث والخمسين.
وحكى أبو علي بن مكنجا النصراني الكاتب، قال لما وافى عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلثمائة إلى مدينة السلام استدعاني أبو منصور نصر بن هارون، وكان قد ورد معه إذ ذاك، وسألني عن أطباء بغداد، فاجتمعت مع عبد يشوع الجاثليق وسألته عنهم، فقال ها هنا جماعة لا يعول عليهم، والمنظور إليه منهم أبو الحسن الحراني وهو رجل عاقل لا مثل له في صناعته وهو قليل التحصيل، وأبو الحسن صديقي وأنا أبعثه إلى الخدمة وأوافقه عليها وأشير عليه بالملازمة لها، وخاطب الجاثليق أبا الحسن على فصد أبي منصور نصر بن هارون ففصده، وتقدم إليه بأن يحضر دار عضد الدولة ويتأمل حاله وما يدبر به أمره، فتلقى ذلك بالسمع والطاعة، وشرط أن يعرف صورته في مأكله ومشربه وبواطن أمره وطالع أبو منصور عضد الدولة بالصورة، وحضر أبو الحسن الدار وعرف جميع ما سأل عنه، وتردد أيامًا ثم انقطع، واجتمع مع الجاثليق فعاتبه على انقطاعه وعرفه وقوع الإنكار له، فقال له لا فائدة في مضيي، ولست أراه صوابًا لنفسي، وللملك أطباء فضلاء عقلاء علماء، وقد عرفوا من طبعه وتدبيره ما يستغني به عن غيرهم في ملازمته وخدمته، فألح الجاثليق عليه وسأله عن علة ما هو عليه في هذا الفعل، والاحتجاج فيه بمثل هذا العذر؟ فقال له هذا الملك متى أقام بالعراق سنة فسد عقله، ولست أوثر أن يجري ذلك على يدي وأنا مدبره وطبيبه، ومتى أنهى الجاثليق هذا القول عني جحدته وحلفت باللّه والبراءة من ديني ما قلته، وكان عليك في ذلك ما تعلمه فأمسك الجاثليق وكتم هذا الحديث، فلما عاد عضد الدولة إلى العراق في الدفعة الثانية كان الأمر على ما أنذر به فيه.
وتوفي أبو الحسن الحراني في الحادي عشر من ذي القعدة سنة خمس وستين وثلثمائة للهجرة ببغداد، وكان مولده بالرقة ليلة يوم الخميس لليلتين بقيتا من ذي القعدة سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
ولأبي الحسن الحراني من الكتب إصلاح مقالات من كناش يوحنا بن سرابيون، جوابات مسائل سئل عنها.